عُمان: حمود سعود
في العمل الروائي الجديد للكاتب محمود الرحبي والمعنون بـ «المُموِّه» والصادر عن دار المتوسط 2023، وهي رواية قسّمها الرحبي إلى 27 فصلا، (يتفاوت قصر وطول كل فصل بين نصف صفحة، وخمس صفحات)، تعددت أمكنة السرد داخل الرواية، وزمن تصاعد وتطور الأحداث، حيث يبدأ الرحبي روايته بخروج «المُموِّه» من المسجد في الفجر، علما بأن الكاتب لم يذكر لنا اسم المُموه، هذا الخروج من المكان الذي حدده الروائي، وفي بداية اليوم تحديد ذكي ومدروس، لأن الأحداث ستذهب في الاتجاه المعاكس لهذه البداية.
فقط أعطاه هذا اللقب أو الصفة التي اشتقها من عمله الليلي (في الغالب)، يقترب محمود الرحبي من المجتمع ليقرأ هواجسه وأحلامه وتناقضاته وأوهامه وأوجاعه وجوعه وترفه وقلقه، اختار الكاتب زاويته الخاصة للرصد والترصد، واختار عدسته لقراءة القاع المهمل للمجتمع، وانقسم فضاء الرواية المكاني، بين فضاء مغلق وفضاءات مفتوحة، وبين زمنين ليلي مغلق، وبين نهاري مفتوح على القلق والتوتر والريبة، كل هذا التضادية في الزمان والمكان هو أسلوب خاص لسبر أعمق للمجتمع ومن زوايا مختلفة.
والمُموه الذي جعله الرحبي بطل النص الروائي، فقدنا اسمه، فقد أعطاه صفة، وهذه الصفة هي المحرك الأساسي لمجرى السرد داخل الرواية وثيمتها العامة، وهذا التموه والتخفي يكون عادة لسبب ما، أو لهدف ما، أو خوفا من شيء ما، لكنه في هذا العمل الروائي كان التخفي لهدف الاقتراب من قاع المجتمع وطبقاته المسحوقة والمكبوتة، وما يحدث في مجتمع الليل، المُموه استفاد من هذا التخفي، وتلذذ باللعبة «لا أستطيع القول إن الوقت ليس ممتعا في الحانة، فأنا لست أقل استماعا من الشاربين، فوق ذلك أمتلك ميزة لا يمتلكها أحد غيري، وهي هذه اللحية الشاسعة التي تغطي وجهي وتنسدل على صدري، الجميع يصوّب نظراته ناحيتي، وهذا ما يبحث عنه عثمان تحديدا» ص24. «فهكذا أنا يمكنني أن أكون مستمعا له، وسائقا وهميا، وكذلك مُموَها يشتت الأنظار» ص38، وحتى آخر جملة في الرواية نجد أن الشخصية تماهت مع وظيفتها واستمتعت بها «لقد اشتقتُ إلى عثمان، اشتقتُ إلى الجو السحري للحانات» ص55.
وهذا التخفي وهذه الصفة غلبت الاسم، (لكنها أظهرت لنا جزءا من حياة المجتمع)، وهي الحيلة التي تمكن بها هذا الرجل الثلاثيني ليجد وظيفة، لقد أعطى لنا الرحبي توصيفا للشخصية، وتوصيفا لعلاقة الشخصية بشبكة الشخصيات الأخرى الواردة في الرواية. (الأم، عثمان، جاره عبدالله).
فهذا المُموّه لم يكمل دراسته، ولم ينتظم بعمل، عاطل عن العمل، عمره 34 سنة، فاشل في الزواج بسبب زوجة متطلبة، يعيش وحيدا مع أمه، يتقن الطبخ. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل التحول الذي حدث لشخصية المُموّه مقنع فنيا؟ كيف يتحول شخص من ملتزم بالصلاة في المسجد إلى شخص يعمل (أو يرضى بالعمل) في الحانات الليلية؟ وحين كان ملتزما بالصلاة والمسجد لم يطلق لحيته؟ وقبل أن يعمل في الحانة أطلق لحيته الشاسعة. (وهذا الجانب من النقاط التي عمل الروائي على التضادية).
هل قصر الرواية يشفع لهذا التحول السريع؟ هل تسرع الروائي قليلا بتحول المُموّه من رجل مسالم وهادئ إلى رجل يعمل في الحانة ليلا؟ أم أن هذه الشخصية هي المطلوبة لكي يقتنصها عثمان لتعمل معه؟ هل الحاجة إلى العمل دفعت المُموّه إلى الموافقة على العمل مع عثمان؟ وكذلك للهرب من عتاب الأم المتكرر للمُموّه؟ ورغم عمله في الحانة لأوقات متأخرة، لكنه لم يذق أي مشروب كحولي طوال عمله.
تبدأ الرواية بهذه الجملة الصادمة: «خرجتُ من المسجد، وأنا أبحث عن نعليّ» ص7، فالشخصية هنا تخرج من المسجد لكنها كانت تبحث عن النعل (الحذاء)، والبحث عن الحذاء، وهو دلالة عن البحث عن حياة، وعن طريق ومخرج من متاهات كبيرة لحياة الشخصية، يكمل السارد جملته» لا أخفي بأني أفكّر فيهما في أثناء صلاتي بعد أن جربت حال من سُرقت نعلاه واضطرّ للعودة إلى البيت بخفيّ حمامات المسجد البائسة» ص7، من خلال مفتتح هذه الرواية يظهر لنا التناقض بين الفعلين، الخروج من المسجد (مكان يدل على السلام والطمأنية والآمان الشخصي للإنسان)، والبحث عن الحذاء (وهذا البحث محاط بالقلق والتوتر والتوجس)، قد يتساءل القارئ: ربما هذه حادثة فردية، (سرقة أحذية المصلين)، لكن الفقرة التي تليها، توضح لنا أن فعل السرقة قد تكرر سابقا، التناقض الذي ظهر في بداية الرواية بين الفعل (السرقة)، والمكان (خارج المسجد) يندمج مع الجو العام للرواية القائم على سبر التناقضات الكبيرة التي تحدث للشخصيات، التي تمثل شريحة من المجتمع، سنقترب من هذا التناقض الذي قامت عليه الرواية من خلال الشخصية، ومن ثم الأحداث العامة الواردة في المتن.
شخصية المُموّه، شخصية غامضة، راصدة للتفاصيل الدقيقة، وتفاصيل الأمكنة، والشخوص، ولكن لا نستطيع قراءة علاقتها بالشخصيات الأخرى بدقة ووضوح، حتى علاقته بأمه، هل هي قائمة على التقدير والاحترام، أم أنها قائمة على الخوف؟ «بسبب الصلاة، هدأ قلق أمي على جزء من مصيري حين رأتني أحرص على أدائها في الجامع» ص8. «حين بدأت لحيتي تطول فجأة، على غير قياس أو حد، استعادت قلقها، وهذه المرة كان مشبوبا بالغموض» ص8، يتضح لنا أن العلاقة بين المُموّه وأمه يشوبها الغموض، والغموض نابع من شخصية المموه، حتى ذهابه إلى المسجد ليرضي أمه فقط؟ هل هو مقتنع بالصلاة أم لا؟ هذا الأمر يلفه الغموض كذلك؟
«أمي بعد أن أطلقت لحيتي فجأة صارت تنظر إليّ بريبة، ليست الوحيدة من فعل ذلك في عائلتي، إخوتي كذلك، توجسوا من أمر خطير: الإرهاب، داعش» ص17، يتضح لنا من المقاطع السابقة الجو العائلي الذي يعيش في المُموِّه، والريبة التي تلاحقه، ليس فقط بسبب اللحية التي أطلقها، دون سبب، أو دون مبرر حقيقي؟ وهل هي لحية تدين؟ أم لحية موضة؟ من خلال تتبع خيوط السرد لم نجد تحليلا دقيقا للدافع لهذه اللحية؟ لكنه في الصفحة 27 يذكر سببا لهذه اللحية «وهو ينظر إلى لحيتي، ولكي أبدد أي شكوك أمنية، قلت هي لحية إهمال، حيث أجد عملا سأحلقها كاملة، لم تعكس ملامحه أنه صدقني، كيف سيكون شعوره لو قلت له إن معظم أيامي أقضيها في الحانات بسبب هذه اللحية؟ّ»، لكن هذه اللحية سيكون لها وظيفة داخل منظومة السرد، وهي شرط أساسي لكي يضمن العمل مع عثمان، وتعود الأم إلى الطمأنينة في نهاية الرواية «كانت مطمئنّة إلى غيابي من البيت مع طول لحيتي». ص54
ـ كم ستدفع لي؟
ـ نفس ما كنت تأخذه من مصنع البلاستيك.
ـ آها، وفقط تريدني أن أجلس واستمع إليك!
ـ نعم، وأريدك كذلك أن تطلق لحيتك» ص 22
نلاحظ من خلال الفقرات السابقة، العلاقة الغامضة بين المُموّه وأمه، وهذه العلاقة المرتبكة نجدها كذلك بعلاقته بعثمان، رغم أنه يقضي وقتا أطول معه في الجلوس في الحانات وقطع المسافات الطويلة.
لكن العلاقة بين المُموّه وعثمان، محددة بشرط مسبق، «أنا أريد فقط جليسا يستمع إليّ، يمكنك أن تطلب ما تشاء في أثناء جلوسك حتّى لو كانت أطباق طعام» ص22، هنا العلاقة بين الشخصيتين محددة سابقا، حيث المطلوب من المموّه الصمت، والاستماع فقط، ويطلب ما يشاء من الطعام، وستقوم لحية المموّه بالعمل المطلوب الذي يبحث عنه عثمان، «هو باختصار لا يريد أن يسمعني وأنا أتحدث، لذلك كانت عيناي وأُذناي أكثر ما يعمل في وجوده، أما اللسان فهو في حالة سبات» ص47، يتضح أيضا لنا أن العلاقة بين الرجلين يلفها الكثير من التوجس والخوف، بسبب طبيعة عمل عثمان، وليس بسبب الأمكنة التي يجلسان بهما.
العمل الذي يقوم به عثمان يلفه الشك والريبة، لكن تفضحه العبارة التي تتكرر في الرواية «يد في يد، ويد في الجيب»، وكذلك من خلال استنتاجات المُموّه، وخروج عثمان خارج الحانة عندما يصل الشخص الضيف، لذا نستطيع القول أن المُموّه شارك بشكل فعلي وضمني في فخ العمل المريب الذي يقوم به عثمان.
ولأن الزمن والأحداث تدحرجا وتصاعدا بسرعة، تتناسب مع فكرة الرواية وصغرها، فإنها الأحداث تنقلت بين أمكنة مختلفة وبسرعة خاطفة من مطرح وبيت الفلج إلى السيب، وإلى نزوى وبركاء وخصب، وكل هذه التنقلات وعينا المُموّه ترقب وترصد التفاصيل وتفهم اللعبة جيدا، لعبة الليل ومجتمع القاع.